التّنفيذ في المادة المدنية والتجارية

التّنفيذ في المادة المدنية والتجارية

بعد حقبة من الزمن عاتبت التسعة والثلاثين عاما في العمل تضمنت جهودا في مجالس القضاء والتدريس والتأليف نتج عنها كتابة عدد من المؤلّفات وجُملة من الأبحاث القانونية وإلقاء عدّة محاضرات في مؤتمرات وملتقيات وطنية ودولية أضع اليوم الطبعة الثانية من مؤلّفي «التنفيذ في المادّة المدنية والتجارية» .

فبعد الطبعة الأولى لسنة 2018، كان لا بُدّ من البحث عن الأفضل والأشمل باعتبار الكتابة جهدًا متواصلاً يهدف إلى تجاوز ما ورد فيها من نقائص فالكاتب يرنو دائما، في ضوء تطور الأنظمة القانونية والبحوث والدراسات، إلى تغيير ما توصّل إليه نحو الأفضل، وإلى التعمّق فيه نحو الأحسن. 

 وتستحضِرُنا في هذا الإطار مقولة الفقيه عماد الدّين الأصفهاني حول دوام واستمرارية التنقيح والتعديل في التأليف: «لا يكتب أحد كتاباً في يومهِ إلا قال في غَدِهِ: لوُ ُغَّيرَ هذا لكان أحسن، ولو زِيدَ هذا لكان يُستحَسن، ولو قُدَّم هذا لكان أفضل، ولو تُرِك هذا لكان أجمل. وهذا أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جُملة البشر».

وقد نتجت عن ذلك هذه الطبعة الثانية أقدّمها لفائدة المشغوفين بالقانون حتى تَعم ّ مهارة التفكير القانوني نظريا وعمليا وينتشر التعريف بمواد التشريع التونسي وتٍفتح آفاقا جديدة تساعد على حسن تأدية الوظيفة القضائية وضمان فرض سلطة القانون.

وأقدم المؤلف بصفتي الرئيس الأول لمحكمة التعقيب  وتناط بعهدتي مسؤولية على قدر لا يٍستهان به من الأهمية وذلك بالنظر إلى تَقلّد هذا المنصب في فترة جدّ مضطربة وفي زمن اكتسحت أزمة الثقة المؤسسة القضائية على مستويين فالأول يتعلق بالمتقاضين الحاليين منهم والمحتملين، الذين ما إنفكوا يتهمون العدالة لكونها بطيئة وغامضة وغير متوقعة. والثاني يتعلق بالمتابعين للشأن العام الذين عبّروا في أكثر من مناسبة عن عدم ثقتهم بالمؤسسة القضائية.

 وغالبًا ما تكون هذه الانتقادات مبالغا فيها ،وفي بعض الأحيان لا أساس لها من الصحة البتة ، لكن لا يمكن للقضاة تجاهلها. ورداً على ذلك، يجب عليهم دائمًا إظهار ما يفعلونه بشكل أفضل وإظهار أن الواقع الذي يتعاملون معه هو حقيقة معقّدة. ومنه، فإنّ مسألة الاتّصال والتوّاصل يجب أن يكون موضوع تفكير مشترك.

إن التشكيك في مصداقية الأحكام القضائية ، يدفع البعض من القضاة إلى عدم اتخاذ القرار الأفضل ولكن القرار الذي يعرضهم أقل ما يمكن للانتقادات. لذلك، من مصلحة المتقاضين وجميع السكان، وليس من مصلحة القضاة الخاصة، أن يتمّ الحفاظ على المصداقية التي تتحلّى بها الأحكام القضائية.

وسأحاول أن أبدي آراءً بخصوص متطلبات جودة العدالة دون أن أدّعي إحلال نفسي محل أي كان،

سأسعى ، من موقعي، جاهدا للتذكير بِلاَ كَلَلٍ بخصوصية وظيفة القاضي والحاجة إلى الاستقلال والاستقلالية التي تنتج عنها وسأقوم بذلك من التجربة التي أستخلصها من رئاستي لمحكمة التعقيب ومن تجربتي القضائية منذ أكتوبر 1984.

وفيما يتعلق بالعدالة، فإنني كرئيس أوّل في وضع جيد يسمح لي بمعرفة أنه في الواقع يتعرّض القاضي لانتقادات في كثير من الأحيان التي هي ،في حقيقة الأمر، ناتجة عن سوء فهم ماهية دور القاضي، فلا بدّ من فهم دوره ووظيفته وحدودها، وهو أمر أساسي في مجتمع ديمقراطي يطبّق فيه القاضي القانون، ويبحث بعناية في إرادة واضع النص ، عندما تكون غير واضحة، مع مراعاة التغييرات في المجتمع التي لم يستطع المشرع التنبؤ بها عند وضعه للنص القانوني.

علاوة على ذلك، يتوجب على القاضي أن يحتكم إلى الاتفاقيات الدولية المُصادق عليها من الجمهورية التونسية لإعلاء إرادة المشرع الذي أذن بالمصادقة على تلك الاتفاقيات، التي أعطاها دستور 25 جويلية 2022 بالفصل 74 منه قيمة أعلى من القوانين ، ولكنّها تبقى دون الدستور ، فقد تضمنت الفقرة الأخيرة من الفصل 74 المذكور أن « المعاهدات المُصادق عليها من قبل رئيس الجمهورية والموافق عليها من مجلس نواب الشعب أعلى من القوانين ودون الدستور».

إنّ الدور الذي يضطلعُ به القاضي والذي يُتوّج بإصدار قرار قضائي ، لا يكاد يوجد أي نظير له، هي عملية يسود فيها مبدأ المواجهة والمداولات التي تحترم آراء الجميع والتي يغذّيها تبادل الخبرات والتجارب بين المحاكم سواء على المستوى الوطني أو الدولي سيما وأن عملية التبادل هذه ليست مجرد حبّ إطلاع بل هي تندرج في إطار البحث عن الحلّ القضائي المُتطابق مع القاعدة القانونية.

ومنه فإنّ تبادل الخبرات بين مختلف المحاكم من شأنه أن يُعزّز شرعية قرارات محكمة التعقيب، ومن ورائها شرعية قرارات محاكم الاستئناف ومحاكم البداية بشكل عام، التي لا تعتمد على المعرفة القانونية التي تعتبر ضرورية لأولئك الذين يصدرونه بل تستند كذلك إلى المنهجية المؤدية لذلك القرار وحُسن صياغته.

 وفي ذلك، لا بدّ من أن تجتمع في القاضي جملة من الخصال لا سيما الحياد من خلال القدرة على التخلي عن مشاعر المرء وآرائه وأفكاره وتقييماته ومصالحه الشخصية والقدرة على التحاور والنقاش وفحص الحقائق بدقة مع قياس معنى وقيمة وأبعاد القرار. وهي نتاج لتجربة مهنية تقوم على إحترام أخلاقيات المهنة التي ترافق القاضي طيلة الحياة المهنية.

ومع ذلك، يحقّ للمتقاضين أن يتوقعوا أن تفسير قواعد القانون سيكون موحدا كشرط للمساواة بين المتقاضين وضمان الأمن القانوني الذي يعطي محكمة التعقيب سبب وجودها. فهي ليست مجرد محكمة طعن. بل يجب أن تتولى بشكل كامل السلطة المحددة التي أوكلها المشرع إليها بشكل خاص.

ولئن كان لا مفرّ من الإقرار بأنّ المجتمع يعيش على وقع قوّتين تتدافعان بالتوازي: قوّة تشدّ إلى الوراء، وأخرى تدفع باتجاه الأمام . وإنّ مظاهر الشدّ إلى الوراء التي ينتهجها البعض لا تُمثّل سوى حافزٍ نحو مزيد العمل والدّفع باتّجاه التقدّم ... والمسار يتطلّب صبرا جميلا.

وتظلّ الكثير من دواعي الأمل قائمة. فالمأمول أن يتم الاعتراف بدور القضاة بشكل أفضل في السنوات القادمة، وأن تُحظى جودةُ أحكامهم بمقبولية أكبر وأن يعملوا بدورهم بهدوء أكبر وهي جزء من العدالة التي يتعرف فيها المتقاضون على أنفسهم ويثقون بها.

وأؤكد في خضم التجاذبات، أنّ محكمة التعقيب ستواصل مهمتها التعديلية والتقعيدية بروح من الانفتاح والجدية بما هي عامل أساسي للاستقرار باعتبارها قاعدة السفينة السائرة في هذا البحر المضطرب لتكون قرارتها وتقاريرها وملتقياتها المرجع والأثر الذي لا يفنى على قول الشاعر :

وَمـا مِـن كـاتِـبٍ إِلا سَـيـفني وَيَبقي الدّهر ما كَتَبت يَداه
فَـلا تَـكـتُـب بِـيَـدك غَير شَيءٍ  يَـسـرّك في القِيامة إِن تَراه

      أمين بن خالد بن محمد الجندي

      (1766-1841 م)

فإلى من يطلب عدلا، وإلى من يتكفله ، أقدم الطبعة الثانية من مؤلّفي علّه يجد فيه ما يساعده على القيام بواجباته آملا أن تتدعّم هيبة القضاء ومناعته لتكون تونس موطنا للحق ومرجعا للعدل.


     
                                                                                                                            

كل التعليقات

اترك تعليقا

التوصيل مؤمن

التوصيل مؤمن مع شركة أرامكس

الإرجاع المجاني

الإرجاع مجاني في حالة خلل بالكتاب في غضون 30 يوم

التسليم داخل تونس

مواعيد التسليم : من 24 إلى 48 ساعة

التسليم خارج تونس

مواعيد التسليم : أسبوع كأقصى تقدير