المحيط في شرح القانون الخاص الجديد (الجزء الأول): القانون البنكي

المحيط في شرح القانون الخاص الجديد (الجزء الأول): القانون البنكي

إذا كانت الأسهم هي سندات تمنح صفة شريك في شركات الأموال عامّة، فإنّ مصطلح «البنك» هو أداة تقليديّة تمنح صفة مُستثمر للمصارف الناشئة.

فقديما كان التجّار يتحاكمون إلى وسطاء و«رؤوس أموال» لتبديل العملة ذات المعدن النفيس في زمن تفشّت فيه المقايضة بين السلع في البوادي والأرياف وتطوير التعامل اقتضى آنذاك التواصل بالنقاط الرئيسية المتواجدة عادة بأسواق العواصم التي تزدهر فيها عمليّتا البيع والشراء بحسب نوعيّة البضاعة التي تُعرف بها هذه المنطقة أو تلك.

ولأنّ السياسة الماليّة لا يمكن أن تضمن استقرارها بكميّتي الذهب والفضة ذات التواجد الدوليّ المحدود وغير المُنتظم والتي ليس من شأنها أن توازن بين عمليّتي العرض والطلب في سوق التجارة العالميّة، فقد تم الاقتصار على ضبط حركتي الإنتاج والاستهلاك للتعرّف على الحالة الصحيّة للسياسة النقديّة لأيّة دولة ما.

ومع ازدهار هذه الحركة التي تقاس بالرجوع إلى عديد المعايير الاقتصاديّة ولد ما يسمى «القانون البنكيّ» والذي هو سليل المعاملات التنظيميّة للسوق التجاريّة الدوليّة وكانت الغاية من ابتداعه إحكام التصرّف في الموارد الماليّة الواردة من السوقين الداخليّة والخارجيّة وتثبيت الاستقرار في السياسات النقديّة للدول وبثّ الأمل في نشاط التاجر سواء أكان ذاتا طبيعيّة أو خاصّة شخصا معنويّا حتّى يكون ثمن تضحّاته الآنيّة في الإنتاج والتوزيع والمخاطرة برأس المال، ضمان الربح وتوسّع استثماراته في المستقبل.

إنّ البحث في آليات النشاط البنكيّ الدوليّ وانعكاساته على الصعيد الوطنيّ اتّسم منذ نشأة البنك المركزيّ والمصادقة على العُملة التونسيّة بداية عهد الاستقلال بالتردّد والتمسّك بالمقاربات التقليديّة ذات المصدر الاستعماريّ. ويفسّر هذا التململ في الإحاطة بهذا الفرع من القانون بعديد الاعتبارات، أهمّها، طبيعة مادّته التقنيّة التي تستعصي على رجل القانون غير المختصّ خاصّة إذا ما نأى فقه القضاء عن حسم الخلافات التي سكت عنها النصّ.

كما أنّ القانون التجاريّ الدوليّ ذا المصدر المشترك والذي ينحدر منه الفرع البنكيّ، كثيرا ما وجد ضالّته في العُرف والعادات التي تجسّمها مواقف مشاعة أو أحكام مألوفة أخذ عليها المنتسبون للقطاع منذ سنين غابرة، وبالتالي فإنّ توجيه الباحث إلى النصوص المكتوبة ومُحاصرة القاضي بالأحكام الإجرائيّة التي يترتّب عن عدم احترامها البطلان المطلق، يخلق رغبة من «التذمّر» لدى المنشغل بالقانون التجاري البنكيّ لأنّه بذلك سيفرّط في «حريّة» نشاطه المهنيّ ومعالجاته التقنيّة وسينشغل أكثر فأكثر بـ «ديكتاتوريّة» النصوص!

و لعلّ تلك الصعوبات وغيرها، هي التي ساهمت في ندارة المراجع الوطنيّة في معالجة مادّة القانون البنكيّ فباستثناء مخطوط المرحوم محمد العربي هاشم أواخر سبعينات القرن المُنصرم ومؤلّف الأستاذ توفيق بن نصر وأطروحة الباحث حمادي الرائد بداية القرن XXI، لا نكاد نلفى فقيها تونسيّا تناول القانون البنكيّ بالشرح والتعليق، مما انعكس على فقه القضاء الذي بقيت مساهماته ضنينة وتكاد تكون حِكرا على فروعه المتعلّقة بمسؤوليّة الصيرفيّ في الرجوع في الاعتماد أو في الغلق التعسّفي للحساب البنكيّ.

ومن منطلق تطوّر التقنية القانونيّة عامّة وتدفّق القرارات القضائيّة ذات المواقف الخلاّقة للنصّ البنكيّ خاصّة، آثر كاتب هذه الكلمات إعادة النظر في النظريّات التقليديّة التي قامت عليها هذه المادّة ومساءلة الخصائص التي ميّزتها قرابة السبعين عام منذ نشأة البنك المركزيّ المراقب للسياسة النقديّة والبنكيّة للبلاد التونسيّة. فهل أنّ تلك الأحكام وهذه الخصائص ذات البُعد التقنيّ والمتّصلة بالسياسة الماليّة للدولة، في حاجة للمراجعة، خاصة أن القانون الجديد لسنة 2016 عرف تحوّلا في الأهداف من الحفاظ على صلابة النظام المصرفيّ وحماية المودعين ومستعملي خدماته والتي ظلّت منحصرة في مراقبة داخليّة لاحترام البنوك والمؤسّسات الماليّة للمتطلّبات القانونيّة والتنظيميّة، إلى رقابة مستندة على المخاطر وكيفيّة تقييمها وإدارتها وهو ما من شأنه أن يتيح التحديد المبكّر للمشاكل ومواطن الضعف والتدخّل الوقائيّ والسريع لاتّخاذ الإجراءات التصحيحيّة قبل التوقّف عن الدفع وخضوع المؤسّسة البنكيّة لإجراءات التسوية أو الإفلاس؟

كما أنّه من مآثر إعادة صياغة المادّة الفقهيّة للقانون البنكيّ، تسهيل عمل الباحثين الجامعيّين وطالبي المعرفة والمختصّين في مجالي الاحتراف المهنيّ (الخبراء والعاملون في البنوك) والمحور القضائيّ (القضاة والمحامون ومساعدو القضاء) على الوقوف على ثوابت المادّة ومجالات تنوّعها وتعدّد مضامينها لا سيما على مستوى الخلافات الإجرائيّة التي تستمدّ جذورها من ضعف النصوص أو غموضها أو غيابها لفضّ الرهانات المستجدّة على مستوى معالجة أيّ المقاربة أسلم لضمان علويّة القانون؟ وحتّى يكون القاضي في أريحيّة من أمره لدى موازنته بين الحقوق القضائيّة والإجراءات القانونيّة فلا تغريه مساحة التأويل المرشّحة للاتّساع على التعسّف أو النيْل من حقوق أحد الطرفين المتقاضيين على الآخر.

ندخل إذا، بعد هذه اللمحة عن واقع القانون البنكيّ، إلى غمار وأغوار المادّة التي طال هجرها وتنكّرت الأقلام عن افتضاض مخزونها التقنيّ الدسم عسانا نُسهم، ولو بالنزر القليل، في تجديد مضامينها وخلق روح المغامرة في تناول مواضيعها العصيّة ظاهريّا عن الفهم، من منطلق المُتفكّه بالقانون والمُستنير من قبسات الفقه المُعاصر وموائد الأفكار.

كل التعليقات

اترك تعليقا

التوصيل مؤمن

التوصيل مؤمن مع شركة أرامكس

الإرجاع المجاني

الإرجاع مجاني في حالة خلل بالكتاب في غضون 30 يوم

التسليم داخل تونس

مواعيد التسليم : من 24 إلى 48 ساعة

التسليم خارج تونس

مواعيد التسليم : أسبوع كأقصى تقدير