المسؤولية السياسية في خطاب الفقهاء

مثلت المسؤولية قيمة سياسية ومفهوما سياسيا إشكاليا في التراث السياسي الإسلامي بشكل عام، وفي خطاب الفقهاء بشكل خاص لاعتبارات عديدة لعل أبرزها أنه كان مفهوما مركزيا باعتباره أحد مبادئ الخلقية الإسلامية في السياسة، لم يكن لأي كان ممن فكر في السياسة وكتب في إطارها ونظر أن يتجاهله. فقد كان دائم الحضور صراحة أو ضمنيا ضمن مختلف الخطابات السياسية، وإن تعددت الأفهام والتصورات حوله. وباعتبار الأهمية التي تكتسيها هذه القيمة فقد شكلت خيطا ناظما لتناول الفقهاء لمختلف قضايا السياسية... ولما كانت العلاقة بين السياسة والشرع الخاصية الأهم لخطابهم رغم تنوع صيغه واختلاف الظروف والوقائع المؤثرة فيه، فقد كان تمثلهم لهذا المفهوم تجليا من تجلياتها. وكان التحدي الأبرز لخوض خطابهم في المسؤولية قيمة سياسية الملاءمة بين طرفي ثنائية الشرع والواقع، بل إخضاع هذا الواقع الذي غالبا ما مثل استثناء لسلطة القاعدة التي يمثلها الشرع. وفي إخضاع السياسة لمقتضيات الشرع وملاءمة الشرع لمقتضيات السياسة يتجلى البعد الواقعي لتفكيرهم السياسي الذي ترجموا من خلاله حقيقة مهمة مفادها أن قيمة القاعدة السياسية تكمن في مدى قابليتها للتطبيق، لا في صرامة بنائها. ولذلك فقد كانوا على وعي بأن المسؤولية الأهم التي يجب على العالم آداؤها هي الملاءمة بين القاعدة والواقع أو بمعنى آخر كيفية استيعاب القاعدة ذات المرجع الشرعي للواقع من أجل معالجة قضاياه لا إخراجه من دائرة القاعدة والاكتفاء برفضه ومعاداته. فيجب ألا يكون الشرع متعاليا عن الواقع، فلا تكون له عليه سلطة كما لا تكون له القدرة على إصلاحه. وكذلك يجب ألا يفلت الواقع من ضوابط الشرع التي يجب أن تكون قادرة على استيعاب المتغيرات والاستثناءات. وفي التوفيق بين الأمرين يكمن تمثل فكر الفقهاء السياسي لقيمة المسؤولية ومعالجة ما طرحه الواقع عبر حقب تاريخية مختلفة من قضايا سياسية انطلاقا من هذا الفهم لحقيقتها. وأن تمثل حقيقة هذا الفهم وما يحف به من استتباعات وإجراء الممارسة النقدية العلمية عليه لا يمكن أن يتحقق إلا عبر تنزيله ضمن سياقاته الفكرية والتاريخية والحضارية.